أخر الأخبار

لِمَ لن تُفيدك مقارنة نفسك بالآخرين؟

بعد مرور نصف مدة برنامج دراساتي للحصول على درجة الدكتوراة في علم النفس في جامعة كورنيل، الواقعة في مدينة إثاكا بولاية نيويورك، شعرتُ بأنِّي أفتقرُ إلى جميع تلك القدرات السحرية اللازمة لإتمام مشروعٍ بحثي ونشره، إذ بدا لي أنَّ طلاب الدراسات العليا الآخرين كانوا ينشرون عدة أبحاثٍ في الوقت نفسه الذي أستغرقه لإكمال تجربةٍ واحدة. وكنتُ أبذل قصارى جهدي، لكنْ بدا لي أنَّ ما أُحرِزه من تقدُّم يُعَدُّ ضئيلًا، مقارنةً بما يحققونه.

وعندما أطلعتُ مشرفتي على هذه المخاوف، كان لها رأيٌ مختلف حول هذا الوضع، وطمأنتني قائلةً: “أنتِ لا ترتكبين أي خطأ. كل ما في الأمر أنَّكِ اخترتِ نوعًا مختلفًا من الأبحاث”. وذكَّرتني بأنَّ الباحثين المتخصصين في دراسات المدى العمري مثلي، أي الذين يدرسون الاختلافات بين البالغين في مراحل العمر المختلفة (مرحلة الشباب، ومنتصف العمر، وكِبَر السن)، يستغرقون غالبًا وقتًا أطول بكثير لإكمال مشروعٍ بحثي واحد، مقارنةً بالباحثين الآخرين. ونتيجةً لذلك، فإنَّهم -على الأرجح- ينشرون الأبحاث بمعدلٍ أبطأ من زملائهم في بعض المجالات البحثية الأخرى.

وكنتُ أعي بالفعل أنَّ سير تنفيذ الأعمال المدرجة على الأجندة البحثية لكل طالبٍ يتقدمُ بمعدلٍ مختلف. ففي مجالي (وهو العلوم الاجتماعية) يستخلص بعض الباحثين البيانات من موقع “تويتر” Twitter، أو يجمعون ردودًا من آلاف المشاركين في تجارب عبر شبكة الإنترنت، في فترةٍ لا تتجاوز بضعة أيام. أما الباحثون المتخصصون في المدى العمري، فيَجمعون في الأغلب ردودًا مُرسَلةً أكثر تفصيلًا من كل شخصٍ على حدة. ومع وجوب إجراء اختبارات لمئاتٍ من المشاركين، أو إجراء لقاءاتٍ معهم، قد يستغرق إكمال المشروع الواحد شهورًا، أو حتى سنواتٍ.

ويختلف البحث الذي أُجريه عن معظم أبحاث العلوم الاجتماعية من نواحٍ أخرى أيضًا، تبدأ بالتمويل، وطاقم العمل، والمعدات اللازمة لجمع البيانات الجديدة، وتنتهي بالمهارات، والتصاريح والأذون المطلوبة للحصول على البيانات وتحليلها.

كما أنَّ إجراء بحثٍ يقضي فيه المشاركون من 30 إلى 90 دقيقة لإكمال دراسةٍ واحدة من شأنه أن يكون أكثر تكلفة بكثير من الاستعانة بمشاركين للإجابة عن استطلاع رأيٍ على الإنترنت لا يستغرق سوى 5 دقائق. ففي المعتاد، أدفعُ لكل مشاركٍ 20 دولارًا أمريكيًّا أو أكثر، كي نلتقي وجهًا لوجه، في حين قد يدفع القائمون على تلك الدراسات القصيرة التي تُجرى عبر الإنترنت مبالغ زهيدة تصل إلى 20 سنتًا لكل مشارك (وبالطبع يعتمد البعض على متطوعين لا يتلقّون أجرًا على الإطلاق).

وفضلًا عن ذلك، أواجه تكاليف أخرى على صعيد المال والوقت. فعلى سبيل المثال، في أحد مشروعاتي البحثية، أقيسُ استجابات المشاركين الشعورية تجاه الصور والأصوات عن طريق قياس التغيرات في قدرة بشرتهم على توصيل الكهرباء. ومقارنةً باستطلاعات الرأي التي تُجرَى على شبكة الإنترنت، فإنَّ الدراسات التي تتضمن قياساتٍ فسيولوجية تتسم بتكلفةٍ أكبر، وقد تتطلب معداتٍ تقنية، وخبراتٍ إضافية، بيد أنها تكشف غالبًا معلوماتٍ أكثر. وقد توقفت هذه الأبحاث بالطبع حاليًّا بسبب جائحة فيروس كورونا الجديد.

ويتضمن مشروعٌ ثانٍ أعملُ عليه تحليل مقابلات مع 138 فردًا، اختيروا من مجتمعنا المحلي. وقد يستغرق تسجيل هذا القدر الكبير من بيانات هذه المقابلات، وتدوينها، وتشفيرها شهورًا، بل ربما سنوات.

وأخيرًا، كان عليَّ أن أتعلم لغتَي برمجة جديدتين؛ كي أتمكن من جمع البيانات وتحليلها باستخدام برمجياتٍ بحثية حاسوبية غير مألوفة لي. وهذه المشروعات الثلاثة المختلفة مع بعضها بعضًا ستنتج، حبّذا قَدْر ما آمُل، ثلاث مسوداتٍ أولية، سلَّمتُ إحداها بالفعل وتخضع حاليًّا للمراجعة.

Advertisements

وبالنظر إلى التحديات المختلفة التي قد ينطوي عليها كل مشروع، أدركتُ أنَّ مقارنة تقدُّم سير العمل البحثي الذي يحققه طالبان مختلفان ليست بالعملية السهلة أو العادلة إطلاقًا.

تقييم التقدم المحرَز

على الرغم من أنَّ الوسط الأكاديمي تنافسي بطبيعته، فإنَّصعوبات مقارنة نفسي بالطلاب الآخرين في برنامج دراساتي لنيل الدكتوراة، أو المجال الذي تخصصتُ فيه، لا تمنعني من تقييم تطوري الشخصي بطرقٍ أكثر جدوى. ولأنَّ كل طالب دراساتٍ عليا يعمل في ظل مجموعةٍ مختلفة من الظروف، أدركتُ أنَّ نوعًا واحدًا فقط من المقارنات يتسم بالعدل فعلًا، وهو المقارنة بين تقدُّم حياتي المهنية في الوقت الحالي، وما كانت عليه في الماضي.

فمنذ تلك المحادثة مع مشرفتي في العام الثالث من برنامج الدكتوراة، قدمتُ ثلاث ورقاتٍ بحثية، كنتُ المؤلفة الرئيسة لها جميعًا، وذلك دون أي قدرات سحرية كتلك التي كنتُ أظن أنَّ زملائي يمتلكونها. ومع أنِّي ما زلتُ أغالبُ مقارنة نفسي بالطلاب الآخرين، إلا أنني أنظرُ كذلك إلى ما حققتُه من تقدُّم في الماضي، وأسألُ نفسي: ما الإنجازات المهمة التي حققتُها في السنة الأكاديمية السابقة، أو منذ أن بدأتُ برنامج الدكتوراة؟

وبعيدًا عن نشر المسودات، تضمنَتْ تلك الإنجازات السعيَ لتكوين علاقات تعاوُن مع باحثين من جهاتٍ أخرى، وتقديم الإرشاد لمساعدي الباحثين من الطلاب الجامعيين وغيرهم. وفضلًا عن ذلك، تَطوَّر سير مشروعاتي البحثية أخيرًا، وأصبحتُ أُسجِّل موضوعاتها مسبقًا، أي أحدد فرضياتها، ومناهجها، وخطط تحليلاتها كتابةً، قبل البدء في جمع أي بيانات. وهذه العملية تضفي على أبحاثي مزيدًا من المصداقية، لكنّني استغرقتُ بعض الوقت كي أتعلم أيَّ المناهج البحثية سألتزمُ به.

والآن، أحدد الأهداف التي آمُل في تحقيقها كل فصلٍ دراسي، والخطوات التي أحتاج إلى اتخاذها كي أحقق تلك الأهداف بالسرعة التي تناسبني. ورغم أنَّ تلك الإنجازات قد لا تضاهي دومًا إنجازات طلاب الدراسات العليا الآخرين، فإن رصْد مدى تقدُّمي منذ بدأت رحلة الدكتوراة يُعَد بالنسبة لي -في حد ذاته- نجاحًا بدرجةٍ ما. 

جوليا نولتي

طالبة دكتوراة في مجال علم النفس التنموي بقسم النمو البشري في جامعة كورنيل، الواقعة في مدينة إثاكا بولاية نيويورك الأمريكية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى